لعل أكثر الأنساق الكولونيالية التي كشفت كيف أن الطب جزء من منظومة الإنضباط والرقابة والسيطرة (النفي)، كانت الحالة الجزائرية تحت الإستعمار الفرنسي (1830 - 1962)، حيث "دخل الطب [بشكله الإجرائي الحداثي: الكاتب] إلى الجزائر في نفس الوقت الذي أدخلت فيه العنصرية والإذلال"، وهو ما تتضح نوازعه وفاعليته الأكثر نزعًا وإنتهاكًا للإنسانية "ماديًا ومعنويًا" في مراقبة ألم الخاضعين للتعذيب –للمزيد من المعلومات بشأن التعذيب الحداثي في المعتقلات الصهيونية في مواجهة الحراك الأسير، أنظر كتاب "صهر الوعي" للأسير الفلسطيني وليد دقة-، وإن ظل هذا المثال –التعذيب- متطرفًا في بنية المخطط الطبي الكولونيالي القائم على نزع إنسانية ووجود المستعمَر كاملة، إلا أنه من المتعذر فصله عن سيرورة سابقة عليه من الممارسات الإنتهاكية بشأن الجسد الجزائري المستعمر. (وهنا يمكن الإشارة لتاريخ نفي وقتل وإعطاب جسد الهندي الأحمر بالأمراض، ضمن التاريخ الكولونيالي الأبيض فيما عُرف فيما بعد بأمريكا).
تظل جدلية علاج المستعمِر للمستعمَر، وتحسينه لفيزيولوجيا الجسد و تطبيبه، غير مفهومة ولا منطقية، بما أنها تحضر ضمن النسق الكولونيالي، مالم تتم الإشارة إلى النقاط البنيوية التالية:
1.لا يمكن تناول أي حقيقة بشكل موضوعي مجرد، أي أن الطب هاهنا -كأي حقل معرفي آخر- "باعتباره حقيقة عضوية" لا يحضر بشكل موضوعي إنبانئي، ومتجاوز لحيثيات تفاصيل الخطاب/النسق/الواقع/علاقات القوى القائمة على الأرض، وبالتالي فالجسد (فيزيولوجيا الجسد) ليست مكانًا حياديًا بين الموضوعي والمادي، إنما هو خاضع/مقاوم، مما يعطي الطب والفيزيولوجيا معنىً ودلالةً مغايرين، ولعل ماحدث مؤخرًا من رفض الكنيسيت عينة دم من أحد عضواته بدعوى أن دمها "غير نقي يهوديًا" لأنها من يهود إثيوبيا المهاجرين.
2. إن اتسم الطب في الغرب بحسن النية، والثقة فإن قسم أبُقراط هناك يؤخذ على محمل الجد، من ضمن ديباجة كاملة متراتبة ومعقدة من الضوابط اللازمة لضمان أخلاقية(!) مهنة الطب، أما فيما يتعلق بطب الجسد المستعمَر، فهناك أولويات تصنيفية للأجساد تتعلق بتلك الأخلاقية، وبالتالي فأخلاقية تلك "الحقيقة التي يعبرعنها موضوعيًا يتم إفسادها باستمرار (...) فالطبيب والمريض ينتميان إلى نوعين من البشر لايمكن أن يتصالحا" باعتبار حيثية العلاقة الجامعة بينهما: مستعمِر ومستعمَر.
في فيلم خمس كاميرات مكسورة (2011) الوثائقي الدرامي لعماد برناط وغاي ديفيدي، والذي يدور في فلك ما يسمى "المقاومة الشعبية" للجدار الفاصل في قرية بلعين الفلسطينية، يتحدث عماد برناط باعتباره السارد قائلًا بعد حادث نجا منه: "أنا على وشك أموت من غير ما أنا ولا حدى يدرك ... مش قادر أهرب من إحساسي إني عملت حادث بسبب الجدار، ويمكن إصطدامي فيه هو اللي أنقذ حياتي ... الجنود [الإسرائيليين: الكاتب] إنجبروا يوخذوني أتعالج في داخل إسرائيل ... لو إني اتعالجت في مستشفى فلسطيني كانت حظوظي إني أعيش أقل".
إن هذه الجبرية/القدرية عالية النبر في هذا المقطع من الفيلم، و التي أسس لها الفيلم وفكرته عن المقاومة ورفض التفريط في الأرض والمكان والزمان الفلسطينييّن، على طول مدة الفيلم التي تزيد عن الساعة والنصف، تنحرف إلى نوع مغاير ومقابل ومعادل دراميًا من القدرية في الدقيقة 68، يتأتاها الفلسطيني (في صورة السارد "برناط" هاهنا) مكانيًا وزمانيًا، فبرناط يرى غيابه/حياته لاوجود لها يستحق "الإدراك" لا منه ولا من غيره، أي أن زمانه الفلسطيني الواقع تحت الإحتلال هو زمان حياتيًا لا دلالة له تُدرك حضورًا أو غيابًا، وهذا العدم الإدراكي لم ينكسر إلا حينما أنقذه العنصر المكاني الوحيد الذي فرضته البنية الكولونيالية لتغير وتهندس المكان الفلسطيني، والذي يرفضه الفلسطينييون ويثورون ضده ويقاومونه وهو الجدار الفاصل.
إن هذه القدرية التسليمية وتحولاتها وتحويراتها الجذرية من نقيض لنقيض، والتي أسست لها علاقة السيطرة والنفي بين المستعمِر والمستعمَر، يقر من خلالها الأخير أنه "مدين بحياته للعملية الجراحية التي أجراها له مستوطن يجب أن تُدرس من خلال"بحسب فرانز فانون:
الشخص المستعمَر (...) في بلدان متخلفة، أو المحروم في أنحاء العالم كلها، لايرى الحياة على أنها إزدهار أو تطوير الإنتاجية الأساسية، بل على أنها نضال دائم ضد الموت الكلي الحضور. ويُنظر إلى هذا الموت الدائم التهديد على أنه مجاعة مستوطنة، ونقص في العمالة، وارتفاع معدل الوفيات، وعقدة نقص، وغياب لأي أمل في المستقبل. كل هذا القضم لوجود المستعمَر يميل إلى جعل الحياة شيئًا يشبه موتًا غير مكتمل".
وهو ما يضمن رزعًا هزائميًا في العقل الواقع تحت السيطرة، يجعل إستعارة أدبيات وأدوات النظام الكولونيالي متفهمًا، لمواجهة موت أكبر بموت أقل، وتلك المنظومة هي التي أنتجت لنا الكثير من أدبيات التعامل مع الإحتلال باسم الواقع وتراكمات الهزيمة، والتي أخرجت على العقل الفلسطيني نماذج فلسطينية عن تمثلات متلازمة ستوكهولم، كمدينة روابي، مثالًا من عديد.
في سياق هذا الموت الحي، تكون علة الوجود الكولونيالي مكتملة في بنية العقل المستعمَر والتي تقدم نفسها يشكل مهاجم لثوابت الزمان والمكان الفلسطينيين. فأعمال الإمتناع أوالرفض للعلاج الطبي ليس رفضًا للحياة، بل إستكانة أعمق أمام ذلك الموت القريب والمعدي، أي أن الجسد المصاب هاهنا، يؤمن بأن علاقته مع الإسرائيلي المعالج ليست من باب منح الحياة بقدر ما هي منع الموت في العدم "الغير مُدرَك" فلسطينيًا.
ويتبدى جليًا ليس فقط في قدرية قدرة المحتل على منح الحياة ومنعها، وما في ذلك من الإستسلام لمنظومة النيكروبوليتيك Necropolitique الصهيونية ، بل كذلك في قول برناط: "لو إني اتعالجت في مستشفى فلسطيني كانت حظوظي إني أعيش أقل". ونذكر هنا كيف أن فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" يرى أن النسق الكولونيالي يعمل على اقحام المواطن الأصلاني ضمن تقاليد وآليات إدراك معينة، ففي السياق الطبي نجد الفهم القائل بأن "المعالج التقليدي" لا يعبر عن العادات فقط، ولا حتى عن العلاج، ولكن عن بنية إجتماعية أيضًا، بكل ما فيها من انعكاسات نفسية وسياسية مباشرة، فـ"حتى لو كان المستعمَر يدرك مزايا دواء حديث كالبنسلين سيكون عليهم أن يستمروا في إجلال العلاجات التقليدية، فالتخلي عن المعالج التقليدي يتضمن خطر النبذ من الجماعة الإجتماعية". إن الفصل الذي أسست له عبارة برناط عن "المستشفى الفلسطيني" تستبطن أفضلية لجسد جماعة ما (الإسرائيلي) طبي وإجتماعي وعلمي على جماعة أخرى وهي الجماعة الفلسطينية التي يبدو الأمر بالنسبة له أن الطب الفلسطيني هو مجال تهلكة وقتل وإفناء، أشد منه في حالة الإسرائيلي الواضح العلاقة مع وجوده الجسدي زمانيًا ومكانيًا. وتلك القدرية المعاكسة التي قد يصادق عليها الكثيرون فيما يتعلق ببنية الخدمة الصحية الفلسطينية، لم تأتي في سرد الفيلم ولو بإشارة بسيطة لدور الإسرائيلي في السيطرة عليها ومراقبتها والتحكم فيها، فكيف يمكن تجاهل ذروتها في المتاجرة بأعضاء الشهداء الفلسطينيين إسرائيليًا؟!
إن أحوج ما نحتاج إليه في أي تناول ثقافوي لأي جزء (أو للكل) من بنية النظام الكولونيالي الصهيوني، هو التأكيد على مدى حاكمية المبدأ المؤسس لذلك النظام، وتفردها عن سابق الحالات التاريخية والمحايثة الكولونيالية من دون تماما إنفصال بنيوي عنهم جميعًا. فهو المبدأ الذي يتم من خلاله إنتاج المنظومات الفاعلة كالفكر والثقافة والسياسة والعسكرية وحتى الطب والخدمات الصحية والعلاجية. ولعل موقع المبدأ المؤسس للكيان الصهيوني باعتباره كيانًا قائمًا على إحتلال وإفراغ الزمان والمكان الفلسطينييّن من الجسد والعقل الفلسطيني، وإحلال الجسد والعقل الإسرائيلي محلهما بعد هندسة المكان والزمان وأسرلتهما، هو الدينامية التي إنطلق منها الخطاب في كامل هذا الفيلم، وهو ما يبرر في نظرنا كل مادار حول الإنتاج الخاص بفيلم "خمسة كاميرات مكسورة" من شبهات.